الجمعة 27 جمادى الآخرة 1441 هـ
الموافق 21 فبراير 2020 م
الحمد لله البر الجواد، الهادي إلى سبيل الرشاد، الموفق بكرمه لطرق السداد، نحمده أبلغ حمد على ما اتصف به من صفات الكمال، ونعوت الجمال والجلال ، ونشكره أتم شكر على نعمه، التي جلّت عن الإحصاء والإعداد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بوحدانيته ، واعترافاً بما يجب على الخلق كافة من الإذعان لربوبيته وألوهيته، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى من بريته، والمخصوص بشمول رسالته وتفضيل أمته صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوا الله رحمكم الله، ولنعتبر بمن مضى من قبلنا، عاجلهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، هم السابقون ونحن بهم لاحقون، سبقونا بمضي الآجال ونحن على آثارهم تُشدُّ بنا الرحال، (أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ)
معاشر المسلمين: إن أعظم القدوات الذين أشاد الله تعالى بهم في كتابه العزيز، هو سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قال الله فيه: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) فالنبي صلى الله عليه وسلم هو قدوة مطلقة، بلا حدود زمانية ولا مكانية، في أقواله وأفعاله، وأخلاقه وسيرته وتقريراته، دَقَّتْ أم جَلَّتْ، وقد سرت هذه القدوة النبوية المباركة إلى ذريته وزوجاته، وقد صح في الخبر الأمرُ بالصلاة عليه وعلى ذريته وأزواجه، فأصبحوا كذلك قدوة للعالمين، قال الله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)، وقال سبحانه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) هذا وإن من أَجَلّ القدوات النبوية من أهل بيته الشريف ابنته السيدة الفاضلة الشريفة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وعن أمها المباركة خديجة، وصلى الله وسلم على أبيها محمد.
عباد الله: إن الحديث عن القدوة النبوية السيدة فاطمة رضي الله عنها، حديث مُغْدِقُ الثمارِ، عظيم الشأن، له حلاوة وطلاوة ورِيّ ونماء ورونق وبهاء، ينبه الغافلين، والمنبهرين اللاهثين وراء السراب؛ أن هَلُمُّوا فها هنا الجلال والكمال والطهر والنقاء، ها هنا القدوة النبوية التي اختارها الله على علم لتكون غيثاً للناس في زمانِ جدبِ الأخلاقِ والقِيَمِ والحياءِ، وواحة غنَّاء للأمة في صحراء الشهوات والشبهات، وفقر النفوس وتهافتها وتفاهتها، اختار الله هذه السيدة المباركة على علم، وأودع في شخصيتها من الفضائل والكمالات ما زكاها به ورقاها في درجات العز والشرف، تربت رضي الله عنها في بيت النبوة، وتخرجت بمدرسة أبيها النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وتعلمت من مشكاة الرسالة، ونهلت من علم وفقه زوجها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فحازت أعلى المقامات، وتشرفت بأعظم الثناء، وسطَّر لها التاريخُ أنبلَ المواقف وأفخم الوقائع في تعاملها مع ربها وأبيها، وزوجها ومجتمعها، فمن ذا يلحق شأوها؟ ومن ذا يساميها من نساء الدنيا ؟..
أيها المؤمنون: وُلِدَتْ السيدة فاطمة رضي الله عنها قبل البعثة النبوية بخمس سنوات في مكة، وقريش تبني الكعبة، وأمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أحب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قلبه، وصاحبة المواقف المشهودة المشهورة، كانت فاطمة رضي الله عنها أصغر بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحبهن إلى قلبه؛ لأنها صَحِبَتْهُ منذ نعومة أظفارها ولم تفارقه، وشهدت الأحداث الكبرى في حياته، ورأت من أحوال أبيها وأمورها العجب، وشاركته معاناته، وآلامه وأحزانه وهموم الدعوة، رمى المشركون سلا الجزور على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة فجاءت فاطمة مسرعةً -وهي صغيرة السن- فأزالت القذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي غزوة أُحُد أصيب خَدّ النبي صلى الله عليه وسلم وسال دمه بغزارة فجاءت فاطمة رضي الله عنها وغسلت الدم عنه حتى توقف، ومرة أخرى رمى المشركون التراب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت فاطمة حاضرة ونظَّفت رأسه الشريف وهي تبكي، والنبي صلى الله عليه وسلم يهدئها ويقول: (لا تبكي يا بنيتي؛ فإن الله ناصر أباك).. تعلمت العلمَ مِنْ فِيِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى صارت من رواة الحديث، وحديثها في الدواوين منثورة، وتخلقت بأخلاق النبوة، وتأدبت بآداب أبيها صلى الله عليه وسلم، وصار الناس إذا رأوها تذكروا النبي عليه الصلاة والسلام، حتى في مشيتها ما تخطئ مشيتُها مشيةَ أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما رأيتُ أحداً أَشْبَهَ سَمْتاً ودَلًّاً وهَدْياً برسولِ اللهِ في قيامِها وقعودِها من فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم).. كانت رضي الله عنها كريمة على أبيها صلى الله عليه وسلم، فما رآها قط مقبلة إليه إلا قام إليها، واحتفى بها وأجلسها بجانبه، وقال: (مرحباً بابنتي)، وكان إذا أقبل من سفر بدأ بالمسجد، ثم عرَّج على ابنته فاطمة في بيتها، وسلَّم عليها وقبل رأسها، ودعا لها، ثم ذهب إلى أزواجه… ومن كرامتها رضي الله عنها على أبيها: أنه ضمها وضم عليًّاً والحسن والحسين وألقى عليهم الكساء، ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) وبلغت منزلتُها ومكانتها أن قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي ، يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا ، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا) وأبقى اللهُ سببَ وَنَسَب النبي صلى الله عليه وسلم فيها وفي ولديها؛ الحسن والحسين رضي الله عن الجميع، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْقَطِعُ، إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي). ومن كرامتها رضي الله عنها ومنزلتها: أنه نزل مَلَك من السماء لم ينزل قط لكي يبشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن فاطمة سيدة نساء الجنة، وأن الحسن والحسين سيدَا شباب أهل الجنة؛ ولذلك شهد لها أبوها صلى الله عليه وآله وسلم أنها من خير النساء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خَيرُ نِساءِ العالَمينَ أربَعٌ : مَريمُ بنتُ عِمرانَ و خَديجةُ بِنتُ خُويْلِدٍ ، و فاطِمةُ بِنتُ مُحمدٍ ، و آسِيةُ امْرأةُ فِرعَونَ). أيها المسلمون: لقد وضع الله في شخصية فاطمة رضي الله عنها من الأسباب والعوامل ما رفعها الله به فوق نساء العالمين، وجعلها قدوة عظيمة للنساء، في كل زمان ومكان، وإضافة إلى ما سبق ذكره من جوانب عظمتها فقد كانت فاطمة رضي الله عنها امرأة عابدة قانتة صوامة قوامة قانعة باليسير، صابرة على حياتها وشظف العيش وشدته، حريصة على طاعة أبيها، وإتباع سنته، قائمة لزوجها بحقه وطاعته، لم يُحفظ عنها رضي الله عنها زلة أو خطأ، عظيمة الخوف والمراقبة لله، متدثرة بثوب الحياء والعفة والصون، لم يُؤْثَر عنها كذب في الحديث، أو إخلاف لموعد أو تصرف مشين، تقول عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت أحداً أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي وَلَدَهَا). وكانت رضي الله تعالى عنها طيبة المعشر كريمة المحتد، محببة للناس كلهم، تحتفظ بعلاقات طيبة مع الجميع حتى مع زوجات أبيها صلى الله عليه وسلم؛ فقد كن يحببنها، ويرسلنها أحياناً إلى أبيها صلى الله عليه وسلم لتشفع لهن عنده في بعض الأمور.
أيها الأخوة والأخوات في الله: ومن جوانب عظمتها رضي الله عنها: ما سطَّره التاريخ بمداد من نور في قصة زواجها بعلي رضي الله عنه، فهل سمعتُم بخبره وكيف كان؟ وما مهرها؟ وما جهاز بيتها؟ إنه حدَث لم يشهد التاريخ مثله؛ فهو زواج سيدة نساء الجنة، ابنة سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، وزوجها هو علي رضي الله عنه، رابع الخلفاء الراشدين، ومن أكابر سادات الصحابة رضي الله عنهم، لقد كان عرسها عُرْساً سهلاً ميسَّراً متواضعاً مع كل هذا المجد والشرف، تزوجها علي رضي الله عنه بعد غزوة بدر، ولم يكن عنده مهر، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُمْهِرَهَا قيمةَ درعِه الحطميةِ التي غنمها في بدر، وبلغت قيمتُها في ذلك الوقت أربعمائة وثمانين درهماً تقريباً، ثم أَوْلَمَ عليها وليمةً مباركةً على شاة واحدة، وأما جهاز بيتها وأثاثه: فتقول أسماء بنت عميس رضي الله عنها: (جَهَّزْتُ فَاطِمَةَ إِلَى عَلِيٍّ وَمَا كَانَ حَشْوُ فِرَاشِهِمَا وَوَسَائِدِهِمَا إِلَّا اللِّيفُ وَلَقَدْ أَوَلَمَ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ فَمَا كَانَتْ وَلِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَفْضَلَ مِنْ وَلِيمَتِهِ) وقال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: (دخَلتُ بيتَ عليٍّ، فإذا إهابُ كبشٍ على دكَّةٍ، ووِسادةٌ فيها لِيفٌ، وقِربةٌ، ومُنخُلٌ، ومِنشَفةٌ، وقَدَحٌ) هذا هو زواج فاطمة رضي الله عنها، وهذا هو بيتها وأثاثه، وهي ابنة سيد الخلق محمد بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم…
أيها المؤمنون: وبعد زواجها كانت فاطمة رضي الله عنها مثالاً للزوجة الراضية القانعة المتحببة إلى زوجها، وقد كان يحصل بينهما ما يحصل بين الزوجين من خلاف وتبايُن في وجهات النظر، ولكنها رضي الله عنها لم تكن لتتجاوز أدبها مع زوجها عليّ، ولم يكن علي رضي الله عنه ليظلمها، بل سرعان ما يتراضيا لكرامتها عليه، وَلِمَا بينهما من الحب الذي تذوب معه كل الخلافات والمشاكل.. وقد رزقها الله من عليّ الحسن والحسين، ومحسناً، وأم كلثوم، وزينب، وأم كلثوم هذه هي التي تزوجها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد ذلك، رغبة منه في مصاهرة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم… وقد كانت فاطمة رضي الله عنها ترعى شئون أولادها وزوجها بنفسها، وتقوم بأعمال بيتها حتى أثَّر عمل البيت في يديها، وتعبت من ذلك ولاقت شدةً، فذهبت إلى أبيها صلى الله عليه وآله وسلم تطلب منه خادمة تعينها على أعمال البيت فامتنع النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (والله لا أعطيك وأدع أهل الصُّفَّة) وأهل الصفة هم الفقراء الذين لا مأوى لهم، فرجعت فاطمة رضي الله عنها إلى بيتها، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم الرءوف الرحيم يأتيها في بيتها فوجدها مع عليّ فلاطفهما، ثم أرشدهما إلى أن يُسَبِّحَا ويحمدا اللهَ ثلاثاً وثلاثين، ويكبِّرَا أربعاً وثلاثين عند النوم، فهو خير لهما من خادم، فرضيت فاطمة رضي الله عنها وانقادت لله ولرسوله، وحافظت على هذا الذِّكْر العظيم فرزقها الله بعد ذلك قوة ونشاطاً وتحمُّلًاً وصبراً، ولم يترك علي رضي الله عنه هذا الذكر ولا ليلة صِفِّينَ؛ فلذلك كان من أقوى الرجال رضي الله عنه، وذلك كله ببركة طاعة الله ورسوله، وبركة ذكر الله تعالى. ولله در القائل:
والمجدُ يُشْرِقُ من ثلاثِ مَطَالِعٍ
فِي مَهْدِ فَاطِمَةَ فَمَا أَعْلَاهَا
هِيَ بِنْتُ مَنْ؟ هِيَ زَوْجُ مَنْ؟ هِيَ أُمُّ مَنْ؟
مَنْ ذَا يُدَانِي فِي الْفَخَارِ أَبَاهَا؟
هِيَ أُسْوَةٌ لِلْأُمَّهَاتِ وَقُدْوَةٌ
يَتَرَسَّمُ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ خُطَاهَا
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الجواد الكريم الشكور الحليم، أسبغ على عباده النعم ودفع عنهم النقم وهو البر الرحيم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون: إن جوانب العظمة والقدوة في شخصية السيدة الجليلة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينقضي منها العجبُ، ولا يُقضى منها الأرب، لكننا نشير إلى أن أمر وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم كان له أعظم الأثر على قلبها وروحها، واهتز له كيانها هزة عنيفة، وهي الصابرة المحتسبة ولكن الأمر كان شديداً عليها، بل وعلى المسلمين جميعاً، وتبدأ هذه القصة المؤلمة منذ أن ابتدأ المرض الأخير الذي مات فيه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فَفَقَدَ الكونُ كلُّه هذه الرحمةَ المهداةَ، وانقطع خبر السماء، ووحي الله بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت مدة مرضه قرابة عشرة أيام أو أكثر قليلاً، ويشتد عليه الوجع، ويغمى عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وتدخل عليه ابنته فاطمة وهو في هذا الكرب الشديد فيعتصر الحزنُ قلبَها، وتقول: (واكرب أبتاه)، فيصحو من إغمائه ويقول: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم) ثم إنه دعاها، وَأَسَرَّ لها أنه ميت في هذا المرض فبكت رضي الله عنها حزناً على فراقه، ثم أَسَرَّ لها بِسِرٍّ آخَرَ؛ وهو أنها أول أهله لحوقاً به، فضحكت استبشاراً..
فلما توفي النبي عليه الصلاة والسلام، ودفنه الصحابة، قالت فاطمة لأنس بن مالك: يا أنس (كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟)، وبقيت فاطمة رضي الله عنها بعد وفاة أبيها ستة أشهر، وهي محزونة مكمودة، تذوب كما يذوب الملح في الماء من هول هذه الفاجعة، وذبلت زهرة حياتها، وانطفأت شمعة بهجتها، وتفطر قلبها الرقيق، ولم يعد فؤادها المكلوم يتحمل فراق أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فوافاها الأجل ليلة الثلاثاء الثالث من رمضان، في السنة التي توفي فيها أبوها صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عمرها يومَ توفيت تسعاً وعشرين سنة تقريباً، وتولى غسلَها وتكفينَها وتجهيزَها زوجُها علي رضي الله عنه وأسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ودفنها علي ليلاً في البقيع…
أيها المسلمون: لقد كانت فاطمة رضي الله عنها رمزاً للحياء والستر والعفة، في حياتها وحتى عند وفاتها رضي الله عنها فقد كانت جنائز النساء في عهدها يُلقى على الواحدة منهن ثوب، ثم يصلى عليها وتحمل إلى المقابر، وقد يصف الثوبُ أعضاءَ جسمها، وقد تنكشف، فكانت فاطمة رضي الله عنها من حيائها تكره ذلك ولا يعجبها، وتتمنى شيئاً يستر المرأة في جنازتها، وذكرت ذلك لمن حولها من النساء قبل وفاتها، فاقترحت عليها أسماء بنت عميس رضي الله عنها شيئاً رأته في الحبشة؛ وهو أن يُجعل على النعش شيئاً مقوَّساً من جريد النخل، ويطرح عليه الثوب، وتوضع المرأة تحته، فلا يصف أعضاءها، ففرحت بذلك فاطمة رضي الله عنها وقالت: (سترتني سترك الله). فكانت فاطمة رضي الله عنها هي أول امرأة يصنع نعشها على هذه الصفة التي نشاهدها اليوم في نعش بعض النساء فما أبرك هذه السيدة الجليلة وما أعظم خيرها على الأمة في حياتها وبعد مماتها… أيها المؤمنون: حق لهذه السيدة الجليلة أن تكون أعظم قدوة لنساء وفتيات الأمة ونبراساً ينير الطريق ومثالاً فخماً بديعاً يُحتذى ويُقتدى في الحياء والحشمة والعفاف وما أروع أن تكون سيرتها وشمائلها تعطِّر وتجمِّل مجالس السمر ومنتديات العلم، وتكون مقرَّراً في مناهج التربية والتعليم وبناء القدوات.. وإن الواجب علينا أن نعرف لهذه السيدة المباركة حقها ونعظمها ونتخذها قدوة، فرضي الله عن فاطمة وعن أمها المباركة خديجة وصلى الله على أبيها النبي الأعظم سيد ولد آدم وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم ارزقنا حبك وحب نبيك محمد صلى عليه وسلم، وحب آل بيته الطيبين الطاهرين، وحب أصحابه الغر الميامين، واحشرنا معهم تحت ظل لواء سيد الأولين والآخرين، وأدخلنا الجنة مع الأبرار من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، يارب العالمين.
اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وأدخلنا الجنة مع السابقين المقربين، وارزقنا الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين.
اللهم أقل عثراتنا، واغفر زلاتنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الصالحين الأبرار.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل بلادنا وخليجنا آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.. اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء.. اللهم انصر عبادك المظلومين في كل مكان، اللهم كن معهم ناصراً ومؤيداً، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم احقن دماءهم، وأحفظ أعراضهم، وأطفالهم ونساءهم ورجالهم وشيوخهم، ولا تسلط عليهم من لا يخافك ولا يرحمهم.. اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وأشف مرضانا، وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِىٱلْقُرْبَى وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين